العالم العربي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

اللقاء الأبدي !

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

 اللقاء الأبدي !  Empty اللقاء الأبدي !

مُساهمة من طرف Ch.Marwen الإثنين 23 ديسمبر 2013, 20:10


 اللقاء الأبدي !  11499364506_c6543b9d52_z





 
" سينكِ مع أول سين بالسبيل
و سيناكما لبعضهما - أبدا - بديل "


ثلاث ساعات مرّت و سمير يقود سيارته "الميرسيدس" الجديدة بسرعة فائقة.. لابد أنه قطع ثلثي الطريق الذي يقتاده إلى أمه المحتضرة.
الظلام حلّ منذ ساعة مُلقيا وشاحه الأسود على اللّوحة الريفية الجميلة بمدخل "الرباط" العاصمة ، فظلّت أضواء السيارة القوية تكشف جذوعا سميكة لغابة يلفّها برد الشتاء.
بعد أن استمع في بداية رحلته إلى برامج منوعة من إذاعة "الرباط" المحلية أسكت الجهاز ليحل صمت قاطع إلا من صوت المحرك الرتيب..
أخذت الخواطر المبهمة تتقافز أمامه في الطريق و طفق يمضي إليها وكأنما ليدوسها بالعجلات !..
مشاهد كثيرة هي ، عن حياته البائسة كما يعتبرها.. صدمات و خيبات أمل مُرّة و غدر من أناس قريبون أكثر ما يكون إلى قلبه.
تتردد الصور و الأصوات بذهنه و يتقلص وجهه في كآبة أو غضب من حين لآخر ، و بدا كأنه لا ينتبه للطريق أمامه.. الطريق السيّار الأنيق الذي يقوده بسرعة إلى نهاية حياته العادية.. دون أن يخطر ذلك على باله !..
* * *
انقضت أعوام طوال على آخر زيارة له للرباط.. ظروف العمل طوّحت به إلى الصحراء بالجنوب و كم مقت تلك المنطقة الحارة المملة. و هاهي الظروف تعود به أخيرا إلى مدينته الأم ، إلى بيت والدته الحنون.. و يا لها من ظروف !..
انحدرت دمعة دافئة على خده و عيناه الواسعتان تنظران إلى الطريق بثبات..
و في غفلته التامة استيقظ عقله الواعي بعنف على شيء رآه أمامه فأمسكت يده المتجمدة مقبض السرعات و قام بحركات مذعورة قبل أن يضغط الكابح ضغطة واحدة..
دوّى صرير حاد بالمكان الخالي فتلاه صمت أكثر عمقا من سابقه !..
ملأت مسامعه نبضات قلبه المجنونة و التي لا تبدو مستعدة للتعقّل !..
قد سكنت مقدمة سيارته المغشية بالأضواء على بعد سنتمترات من ساقين نحيفتين ملطختين بالدم !.. اكتشف أنهما لفتاة شابة.. نصف عارية !
لم يتبين ملامحها جيدا.. فرك عينيه بعصبية ثم أزال حزام الأمان جانبا و فتح الباب..
لاحظ دخانا كثيفا - بفعل الاحتكاك - يسبح في الجزء المضاء أمام السيارة ، ما ساهم في حجب ملامح الفتاة "العارية" عن الرؤية..
تقدّم قليلا ناحيتها فلفتَ انتباهه الساقان الداميان و هما يرتعشان ، ثم رفع رأسه ليرى وجها.. جميلا ، شاحبا ، عليه كدمات.. شعر أشهب طويل مبلل ، التصق معظمه بصدغيها..
قال بارتباك و هو يتأمل وجهها المذعور:
- هل.. هل أنتِ.. بخير ؟
ثم عاد يقول بعد أن بلع ريقه:
- من أنتِ ؟
- ...
- أنا.. أنا اسمي سمير و أنتِ ؟
لم تجب على أي سؤال من هذه الأسئلة.. و بقي رأسها مطأطئا لبرهة ثم رفعته بسرعة و فتحت شفتيها على أسنان سوداء !
تصلّب سمير مكانه و تحول عموده الفقري إلى قضيب من جليد !
و في اللحظة التالية قفزت نحوه صارخة !..
* * *
اللقاء الأبدي !
* * *
صُعق سمير و لم يقم بأي حركة لما انقضّت الفتاة الشهباء ممسكة به ثم...
عانقته و أجهشت بالبكاء !.. مسحت برأسها في حضنه و بكت بصوت عال و هي تدمدم بشيء ما.. ارتخت عضلات سمير شيئا فشيئا و لم يزل وقع الصدمة عليه بليغا..
أرغم يده على التحرك ليربت على كتف الفتاة الغريبة بحنان.. ثم أبعدها برفق و هو يقول:
- لا بأس يا آنسة.. الحمد لله.. أنتِ بخير. لكن.. ماذا تفعلين هنا ؟ وماذا وقع ؟
فتحت فمها من جديد على أسنان ملطخة بشيء أسود و قالت وسط النحيب:
- لقد نجوتُ من حادث مريع..
و استسلمتْ للبكاء من جديد..
مدّ يده ليضمها لكنه أعدل عن ذلك و قال بأدب مشيرا إلى السيارة:
- لا بأس عليكِ ، الحمد لله على السلامة.. تفضّلي معي..
و لم يبد عليها أدنى تردد.. مسحت دموعها بعجلة و هرولت نحو الباب الأمامي !
* * *
جلس بمقعده و رأى الفتاة تسند رأسها على الكرسي و تغمض عينيها..
حدّق بها للحظات ، و شعر بالفتنة تُلهبه.. لكنه تراجع عن أفكاره و أشاح بوجهه.. ثم عاد ينظر ناحيتها نظرة خاطفة ، فوجدها قد غطّت في النوم !..
" لابد أنها مرهقة جدا "
خرج من مكانه و فتح الباب الخلفي.. حمل غطاءا و عاد إلى مكانه. مدّ يده بالغطاء و تردد قليلا قبل أن يضعه - بحذر - فوق جسدها "المتبرج"..
عمد أن يشغل المحرك لكن شيء ما شوّش ذهنه و جعله يرفع يده عن المفاتيح و ينحني ليحمل مصباحا يدويا ثم يغادر السيارة..
" تقول أنها نجت من حادث سير !.. أين ؟.. ثم إني لا أرى سيارة هنا ؟ "
فكر بهذا و هو يسلط ضوء المصباح على جوانب الطريق و بين الأشجار.. ثم توغل قليلا وسط الغابة لعله يجد سيارة مقلوبة..
لكن لا وجود لأي علامات حادث !..
شعر بالقلق و التوتر لظلمة المكان و وحشته فدار على نفسه عائدا و.. صرخ رغما عنه !
لقد كانت خلفه مباشرة تحدق فيه بذعر !..
* * *
اللقاء الأبدي !
* * *
تصلّبت عيناه و تدلّى فكه من وقع الصدمة !
قالت و ملامحها ترتعش إيذانا بالبكاء:
- لماذا تركتني وحدي ؟.. أنا خائفة..
و انخرطت في بكاء حاد..
لم يحرك سمير ساكنا و ظل يرمقها بذهول و شك ، ثم نفض رأسه و قال بصوت مبحوح:
- ألم تكوني نائمة ؟.. حسن ، لا بأس.. دعينا نعود إلى السيارة..
* * *
قد نامت من جديد..
حاول ضبط جهاز الراديو على كل الإذاعات و هو يقود و يرفع رأسه من حين لآخر ليرى الطريق ، لكن الشوشرة غطت كل شيء !
" غريب ! "
حانت منه التفاتة نحوها ، فوجد الغطاء قد سقط عنها و ظهرت من جديد "عوراتها"..
تجمدت عيناه للحظة قبل أن يمد يدا تدثرها بالغطاء و هو يتمتم بشيء ما..
لم يعرف الدافع الذي دفعه إلى إخراج الهاتف من جيبه ليجد شبكة الاتصال منعدمة !
" لقد كان في أوجه قبل قليل.. ماذا دهاه ؟ "
هنا سمع غمغمة بجانبه فالتفت بسرعة نحو النائمة ليجدها تتململ مكانها ففهم أنها تهذي في الحلم.. لكن تعبيرات وجهها تغيرت فجأة و تقلّصت ملامحها ثم فتحت عينيها بغتة و قالت بصوت متحشرج:
- أسرع يا سمير.. قد اشتد المرض على أمك !..
* * *
اللقاء الأبدي !
* * *
انحرفت السيارة بعنف و سُمع صوت الاحتكاك القوي !
أدار سمير المقود بحركات عصبية و الهلع على وجهه !.. خرجت العربة من الطريق لتنحدر بخطورة في مسار حجري وسط أشجار مظلمة ، ثم تتوقف أخيرا على مسافة صغيرة من جذع سميك !..
سكت المحرك فساد صمت رهيب قبل أن تشهق الفتاة !..
نظر سمير نظرة صارخة إلى وجهها الذي يبدو بريئا جدا.. نظرة تحمل كل معالم الرعب و الصدمة النفسية العنيفة !..
قال بصعوبة منهيا ذلك الصمت القاتل و مادا يدا نحو الباب تأهبا للفرار:
- كيف ؟.. كيف عرفت ؟.. (وبلع ريقه).. مرض أمي ؟
حدّقت به لبرهة ثم قالت بصوت عال ، عصبي:
- لا أدري ! لا أدري !.. أحسست بذلك ، شعرت به.. أحدهم أخبرني.. لا أدري ! أشعر أنني عشت هذه اللحظة أو سأعيشها مستقبلا.. لا أعلم ما حدث لي بالضبط بعد الحادث و بعد تلك.. الواقعة المخيفة !؟
لم يظهر على سمير أنه فهم حرفا واحدا.. و تنهد عميقا و هو يعبث بشعره بعصبية ثم خرج من السيارة.. وضع كفيه على سطحها و شرد بعيدا..
* * *
- ماذا حدث بالضبط ؟.. و ماذا قصدتِ بالواقعة المخيفة ؟
قالها سمير بعد ربع ساعة من القيادة و من الصمت المطبق..
التفتت إليه ببطء و عيناها تحملان إعياءً شديدا ، ثم قالت ضاغطة على كلامها:
- لست متأكدة من شيء.. عقلي مشتّت كليا.. وكل ما أجده منطقيا في ما حدث معي هذه الليلة هو حادث الجسر..
و صمتت لهنيهة و هي تفرك يديها بتوتر و تنظر إلى أسفل..
ثم واصلت الكلام فجأة :
- كنت أقود سيارتي (البورش) قادمة من الرباط ، على عجلة من أمري.. و وصلتُ إلى الجسر الذي تجاوزناه قبل قليل (و أشارت إلى الخلف).. ربما كانت وقتها الثامنة مساءا لما..
و بترت حديثها و قد لاح عليها التوتر و الفزع !
- لما ماذا ؟
- لما ظهر أمامي رجل ضخم فجأة.. كانت ملابسه مهترئة و أطرافه مرتخية !
لم يكن في الطريق من قبل.. لكنه.. لكنه ظهر وسطها بغتة !.. أقسم على ذلك !
لم أعرف كيف أتصرف و كل ما قمت به هو أن انحرفت بحدة متجاوزة الاصطدام به.. لأجد نفسي أسبح بسيارتي في الهواء.. ثم أغوص بها في الوادي المظلم !
خالط صوتها بكاء خفيض ، حاولت تجاوزه بشهقات عميقة قبل أن تواصل و هي تزيح خصلات شعرها المبلل جانبا..
- صرختُ حتى انقطع صوتي ، بكيت حتى جفت عيناي ، ارتعشت حتى شل جسدي.. وكان الماء الأسود البارد يملأ السيارة رويدا رويدا حتى غرقتُ كليا.. قاومتُ بما تبقى لي من طاقة لكني استسلمتُ أخيرا.. و بدأت أشعر بدوار شديد و خدر في رأسي و ثقل في جسدي و كانت آخر صورة علقت بذهني.. لا زلت أذكرها جيدا.. كانت يدا ضخمة تفتح باب السيارة !
نظرت إلى سمير و كأنها تنتظر منه ردة فعل ، لكنه لم يتكلم مطلقا و كان ينظر لها في دهشة ثم يعود لينظر إلى الطريق بنفس الدهشة على وجهه..
- قلت لك أن بعض ما حدث كان غير منطقي و لست متأكدة منه.. لكن هناك آثار مادية على الأقل !
- واصلي.. واصلي.. ماذا حدث بعدها ؟ وكيف نجوتِ ؟
انتزعت بصرها منه و غمغمت:
- فقدتُ الوعي بعد ذلك و كنت أظنها النهاية.. بل كل ذرات جسمي ارتخت و أذعنت و أيقنت أنها لحظة النهاية !.. لكن الفاجعة كانت لما عاد إليّ وعيي !..
سكتتْ من جديد و تبدّلت ملامح وجهها لترسم الخطورة و هي تقول:
- عدتُ إلى الوعي ببطء شديد و مضى وقت لا أعلم مقداره و أنا لا أفهم شيئا.. كنت أسمع أصوات احتكاك و صوت شخص يدمدم و لم أكن أشعر بجسدي جيدا !..
لكن ، شيئا فشيئا اتضحت لي الصورة.. سعلت بحدة و تقيّأت الماء بكميات أرعبتني.. و شعرت بألم حاد بساقيّ..
كان شخص ما يجرني من شعري على الأرض !
* * *
اللقاء الأبدي !
* * *
قالت الفتاة المذعورة بنبرة جنونية:
- صرختُ و أنا أحاول التملّص من قبضة حديدية تجتث شعري اجتثاثا.. و رأيت الوادي أمامي يبتعد ، لأتذكر فجأة الحادث و اليد التي تفتح الباب !..
لقد أخرجني هذا الـ ؟؟.. من الماء و هو يجرني الآن إلى مكان ما !
انحبس الكلام بحلقها و تحركت شفتاها دون أن يصدر صوتا..
- ثم ؟
- كان ذلك فظيعا ! فظيعا !..
و دفنت وجهها بين كفيها.. و بكت بحرقة..
- لا بأس عليك.. الحمد لله على نجاتك.. لكن أكملي أرجوك..
قالها سمير و ناولها منديلا ورقيا من صندوق صغير..
مسحت دموعها ، و تداركت أنفاسها بصعوبة قبل أن تواصل:
- جرني إلى مكان ليس ببعيد عن الوادي.. و وضعني و أنا لا أكف عن البكاء الهستيري و الارتعاش.. لم أر ملامحه مطلقا و كل ما أذكر هو صوته الأجش لما بدأ يضحك بانتصار..
انحنى عليّ.. شممت رائحته النتنة.. و بدأ يتحدث في أذني و هو يلهث كالكلب:
_ لا تعرفين من أنا ؟ أليس كذلك ؟.. ولا تعرفين ماذا جنيت على نفسك بسبب كلمة عابرة ؟
ضحك فاهتز جسمي اهتزازا لصوته المخيف ، و أكمل يقول بصوت أعلى:
- أنا ابن عمك يا سارة !.. ابن عمك الذي مات و هو يحبك.. مات و لم تصله منك ذرة حب أو إعجاب..
صرختُ و أنا أمسك رأسي و أنظر للسماء برعب.. صرختُ لما تذكرت ابن عمي ، الفلاح الضخم الذي طلب يدي و طردته بقسوة.. وقد مات منذ أسبوع بسكتة قلبية و دفن بمقبرة قرب الوادي ! ! !
واصل الشيء و هو يضغط على كلماته:
- تعرفين الخطأ الذي وقعت به ؟.. تعرفين ؟ هه ؟.. لا تعرفين طبعا لأنك غبية و طالما كنت غبية و لا تملكين ذكاء بقدر جمالك.. ماذا قلتِ لما تلقّيت نبأ وفاتي ؟ هه ؟.. ماذا قلتِ ؟ هيا أسمعيني ؟.. أصابك الصمم و البكم أليس كذلك ؟.. لا بأس ، سأكفيك عناء التذكر..
و قال بصوت رقيق ، يشبه صوتي لدرجة مرعبة:
" فليذهب للجحيم.. عليه اللعنة ! "
ثم عاد الصوت الأجش يصرخ بأذني:
- هذا ما قلته أيتها الحقيرة !.. الـ(...) !
ثم و بحركة مباغتة انقضّ عليّ فصحتُ حتى طارت العصافير من كل مكان لما مزّق شيء ما ذراعي..
ربما عضّني !..
قالت هذا و فكت قطعة قماش كانت تربطها على ذراعها.. فرأى سمير جرحا غائرا مخيفا جعله يشهق بذعر و يفقد السيطرة على المقود !..
* * *
اللقاء الأبدي !
* * *
تدارك سمير الموقف في اللحظة الأخيرة و عاد بالسيارة إلى الطريق بعد أن خرج نصفها..
- أووف !.. أفزعتني..
قالها و هو يمسح عرق وهمي على جبينه..
أردفت و هي تعيد ربط قطعة القماش الدامية و تتألم:
- آسفة !
و دخلا في صمت قصير قبل أن يقول سمير بنبرة استغراب:
- تعنين أن ابن عمك الميّت قد عضّك ؟؟
- قلت لك أني لا أصدق هذا الجحيم المجنون الذي عشته هذه الليلة.. ولا أتوقع أن يصدقني أحد على أي حال !.. قد يكون شبحا، جنيا.. لا أدري، لا أدري..
- حسن.. و ماذا حدث بعدها ؟
سألها سمير و اللهفة تفيض من عينيه.. فقالت وهي تنظر لأضواء مدينة الرباط التي دخلاها دون أن يشعرا:
- ماذا أقول ؟.. لا أعرف كيف أقول ذلك.. لكنه.. اغتصبني !
تسمّر وجه سمير على الطريق و دار ببطء نحوها و هو يعيد ما قالت:
- اغتصبك ؟؟
- نعم !.. و لم أملك فعل شيء فقد كنت مشلولة عن الحركة تماما..
لم يتكلّم سمير و ظلّ يرمق المدينة الشاحبة ، شبه الخالية..
واصلت الفتاة بصوت واهن:
- بعد ذلك.. قال عبارة غريبة ، أحسبها تعويذة.. و انصرف. ثم فقدتُ الوعي من جديد !
- ماذا قال ؟
- لقد قال و هو يرفع يديه عاليا في وضعية غريبة:
سألعنك أنا أيضا.. لعنة دائمة.. لكن بطريقتي الخاصة.. و تمتم بكلمات مبهمة ، بلغة لم أسمعها من قبل ! فشعرت بأشياء تتحرك و تدور حولي بسرعة..
لن أصف لك ذعري و أنا عارية أنزف و قد فقدت القدرة حتى على الارتعاش..
و فجأة صرخ بعبارة ، لا أدري لماذا علقت بذهني إلى هذا الحد..
" سينكِ مع أول سين بالسبيل و سيناكما لبعضهما - أبدا بديل ! "
* * *
حلّ صمت ثقيل بعد جملتها الأخيرة.. و بدا كأن سمير يفكر مليا قبل أن يقول بنبرة قوية و ابتسامة باهتة على ثغره:
- على كل.. حمدا لله ! سواء كان هذا الذي قلت حقيقة أم لا.. انسيه الآن و عودي إلى حياتك العادية. و أنا مستعد لمساعدتك إن احتجتني في أي شيء.
أجابت و هي تتنهد و تبتسم بشحوب:
-مِرسي.. أنت لطيف جدا..
ابتسم أكثر و التفت إليها و هو يقول:
- قلتِ اسمك (سارة) أليس كذلك ؟
- نعم و أنت (سمير).. تشرفنا.
- تشرفت أنا أيضا بمعرفتك.. أ.. لو سمحت سؤال بسيط ؟
- نعم ، تفضل..
أشار سمير إلى فمها و قال بحذر:
- ما هذا الشيء الأسود بأسنانك ؟
* * *
اللقاء الأبدي !
* * *
مسحت سارة أسنانها بسرعة و نظرت إلى أصابعها فابتسمت..
- كنت ألتهم "الشوكولا" أثناء رحلتي.. أنا متيمة به !
ثم ضحكت ضحكة خفيفة ، عصبية..
ضحك هو الآخر و لاحت عليه علامات الارتياح و هو ينحرف متجاوزا ملتقى طرق..
و بعد دقائق من القيادة الصامتة أوقف السيارة أمام مستشفى ضخم.. و التفت إلى سارة فاتحا فمه ، هاما بقول شيء ما.. لكنه لاذ بالصمت بعد أن رآها ترتعش و عيناها شاخصتان تنظران لفوق..
- ما الأمر ؟.. سارة ؟
ربما لم تسمعه !..
أعاد سؤاله و هو يهزها من كتفها بقوة !..
نفضت رأسها أخيرا و التفتت إليه و جبينها ينضح عرقا رغم برودة الجو !.. و قالت بضعف ضاغطة على صدغيها:
- أشعر بشيء غريب !.. شيء ما يدفعني للذهاب إلى مكان لا أعرفه.. لكني أعرفه !.. يا إلهي ماذا حدث لي ؟ أشعر أن نهايتي اقتربت !.. لا.. لا.. لماذا أفكر بهذا ؟
بدا على سمير التأثر بمعاناة الفتاة المسكينة.. فقال بشفقة:
- إنه التأثير النفسي للحادث.. ربما عليك مراجعة طبيب نفسي.. لا تخافي ! سأساندك حتى تجتازين محنتك هاته..
و مباشرة بعد انتهاء سمير من حديثه ارتمت بحضنه باكية.. فظل سمير ينظر من فوق كتفها باستغراب !..
* * *
ودّعها أمام درج المستشفى بعد أن أعطاها رقم هاتفه و ضربا موعدا في اليوم التالي..
لكنها قالت و هي تنظر له نظرة غامضة:
- سامحني !
- لا عليك.. لم أقم بشيء يُذكر.
- لا أقصد هذا.. لكن.. سامحني !
* * *
سينكِ مع أول سين بالسبيل و سيناكما لبعضهما - أبدا - بديل !
* * *
رأى أمه بالمستشفى و أخته جالسة بجانبها..
و كان عناقا حارا ذلك العناق.. و بكاء شجيا كان ذلك البكاء..
وجد حالتها قد استقرت قليلا.. و أخبرته أخته أن قرحتها المعدية اشتدت لدرجة مرعبة قبل ساعة، فتذكر جملة الفتاة..
" أسرع يا سمير.. قد اشتد المرض على أمك ! "
أكدت له الممرضة أن حالتها قارّة و قابلة للسيطرة و أن بإمكانه الذهاب للراحة.. لكنه لم يقتنع حتى أخبرته أخته أنها ستظل بقربها و ستتصل به في حال طارئ.. هكذا ناولته مفاتيح المنزل و نزل الدرجات الرخامية و هو مطمئن إلى حد ما..
* * *
دخلت سيارته إحدى الأحياء الشعبية الخالية إلا من أعمدة الإنارة.. إنها الثانية بعد منتصف الليل..
توقفت السيارة و ترجل منها مبتعدا قبل أن يضغط زرا على حامل المفاتيح دون أن يلتفت لتصدر السيارة صوتا بدا مرتفعا أكثر من المعتاد لسكون المكان !
توجه بخطى مرهقة ، متراخية إلى منزل عتيق.. منزل أمه.
أولج المفتاح بقفل الباب الضخم و هو يسعل.. ثم عبقت في أنفه تلك الرائحة المميزة عندما دار الباب الخشبي العجوز حول نفسه مصدرا أنّة طويلة ، متقطعة..
أضاء الرواق.. تعالى صوتُ حذائه الأسود الرفيع على أرضية المنزل و رنّت المفاتيح بيده..
أضاء الغرف واحدة بواحدة..
" كل شيء كما كان "
المرحاض الضيق المعزول.. الصالون الذي يمثل ثلثي المنزل ! وقف ببابه لحظة و تذكر لما كان يلعب فيه الكرة مع إخوته.. فابتسم طويلا قبل أن يطفئ النور و يغادر..
أضاء الآن المطبخ..
" يا لها من فوضى ! "
لابد أن أخته لم تجد الوقت لأيّ شيء بعد سقوط أمه..
وضع المفاتيح فوق جهاز التلفاز بالرواق ، و اتجه مترنحا إلى غرفة النوم..
أضاء الغرفة ، و سرعان ما رأى البيت الفسيح الذي طالما أحبه لما كان صغيرا و اعتبره أجمل بيوت المنزل..
نعم ، إنه بيته المحبوب..كل شيء مكانه.. لم يتغير شيء إطلاقا..
سوى شيء بسيط..
إنه ذلك الجسد المدثّر على السرير الكبير !
* * *
اللقاء الأبدي !
* * *
بقيت يده معلقة على مفتاح الكهرباء ينظر بجمود إلى الجسم الآدمي المغطى على السرير !
حاول تفسير ذلك بأي شيء ، لكنه يعلم يقينا أن أمه و أخته تعيشان لوحدهما و..
بدأ الجسم يتحرك ببطء.. إنه يزيح الغطاء عنه و...
و شهق سمير بحدة !!..
* * *
- أشعر بشيء غريب !.. شيء ما يدفعني للذهاب إلى مكان لا أعرفه.. لكني أعرفه !..
* * *
أخذه مزيج من الانفعالات و الأحاسيس القوية التي تجعل شعر رأسه كالإبر..
رعب.. دهشة.. صدمة.. رعشة سريعة تصعد إلى رأسه حتى لتكاد تطير به !
- مـ.. ماذا.. ماذا تفعلين هنا ؟
كانت سارة بملابسها الداخلية.. تنهض بدلال و تتثاءب كأنها تستيقظ في منزلها من نوم عميق ، لذيذ..
اقتربت منه و هي تتمايل في مشيتها دون أن تتكلم..
بهت صوته و هو يقول:
- و لكن.. كيف دخلت هنا.. أنا لم...
و بتر عبارته لما عانقته و بدأت إغراءها الشيطاني..
كان الإغراء قويا بحق ، أقوى منه و...
(...)
* * *
- ماذا أقول ؟.. لا أعرف كيف أقول ذلك.. لكنه.. اغتصبني !
- سامحني !..
* * *
أحسّ بسخونة على خده ترتفع.. ثم لبث قليلا قبل أن يفتح عينين ضيقتين متألمتين على نافذة تشع بنور قوي..
إنه الصباح..
لكن ، أين سارة ؟
قام من سريره بطريقة رقيقة لم يعتدها.. وضع رجليه بخفين على الأرض.. لماذا يبدوان ضيقان قليلا ؟.. على أيّ فهما لأخته أغلب الظن..
مشى قليلا.. ثم تجمّد تماما و هو ينظر لشيء أمامه باستغراب عنيف !..
* * *
سينكِ مع أول سين بالسبيل و سيناكما لبعضهما - أبدا - بديل !
* * *
كان ينظر للمرآة الضخمة أمامه..
" يا إلهي !.. ماذا يفعل هذان النهدان هنا ؟.. و.. و الشعر الطويل ؟ "
تأمل غير مصدق الجسم النسائي بصفحة المرآة و هو يلمس وجهه و صدره !..
حرك رأسه رافضا التصديق و بدأ يصرخ و يبكي ليخرج صوته رقيقا ، حادا ، ضعيفا ، غير معتاد:
" لااا.. أنا أحلم !.. أنا سمير.. سميييييييير.. ماذا حدث لي ؟؟.. لاااااااا.. "
انقطعت صرخته أو صرختها فجأة و هي تحدّق بالبيت الغريب الذي لم تنتبه له قبل هذا !
" أين أنا ؟.. "
بيت متوسط الحجم ، ثريّ إلى حد ما ، مرتّب جدا ، و تفوح منه رائحة أنثوية مميزة !..
مشت بخطى مشتتة إلى الهاتف الذي بدأ يرن و يشع ضوءا على منضدة قرب السرير..
حملته و فمها مفتوح.. ضغطت الزر و أدنت الجهاز من أذنها لتسمع صوتا أنثويا ، ضاحكا:
- أين أنتِ يا غبية ؟.. لا تقولي أنك استيقظت لتوك !.. هيا يا عزيزتي نحن في انتظارك.... سارة ؟!
* * *
- قلتِ اسمك (سارة) أليس كذلك ؟
- نعم و أنت (سمير)...
سينكِ مع أول سين بالسبيل و سيناكما لبعضهما - أبدا - بديل !
* * *
مرّ يومها غريبا و كأنه حلم مبهم ، ضبابي.. كل شيء جديد ، منفر ، تراه لأول مرة !.. و جميع الأشخاص الذين التقتهم يدّعون معرفتها و يخبرونها بأطنان من التفاصيل التي لا تفقه منها حرفا !..
سمعت تعليقات كثيرة من (صديقاتها).. عن " تغيّرها الغريب و الغير مفهوم " و عن علامات " الذعر و الشرود " البادية عليها !..
قالت إحداهن أنها في الغالب فقدت ذاكرتها أو أصابها خلل ما بدماغها و قالت أخرى أنها مزحة ثقيلة منها.. و لم تقل هي شيئا..
ثم إن إحداهن فاجأتها بينما هي بالمرحاض تتمتم بشيء ما..
- من هذا الـ(سمير) الذي تحبينه لدرجة تجعلك تذكرينه هكذا و تتخيلين نفسك هو.. لقد سمعتك تقولين ( أنا سمير ) ؟!..
* * *
في المساء عادت إلى المنزل منهارة تماما.. و مرت قرب الهاتف فانتبهت إلى وجود رسالة هاتفية..
" يجب أن تحضري حالا إلى الدار البيضاء.. فوالدنا قد وصل لتوه من إيطاليا.. يوسف. "
من هذا الـ(يوسف) من جديد ؟.. ربما هو أخوها فقد قال (والدنا) !
على أيّ فهي عزمت على زيارة طبيب نفسي بعد اقتناعها بفكرة صديقتها عن إمكانية فقدانها الذاكرة.. و لابد أن تكفّ عن الاعتقاد بأنها (سمير) !.. أي جنون هذا ؟
بحثت كثيرا في غرف المنزل عن شيء ما.. و بدا عليها الارتياح لما وجدت ما تريد.. إنها رسالة عليها عنوان (منزل والدها) وهي من (يوسف) إياه.. وجدتها بدرج مكتب مليء برسائل من صديقاتها و أصدقائها و أخرى غرامية جدا من.. (ابن عمها) !..
* * *
ارتدت ثيابا قصيرة وجدتها بالدولاب و سرّحت شعرها أمام المرآة ، و هي تحاول إقناع نفسها بكونها (سارة) كما نادتها صديقاتها..
استقلّت (البورش) خاصّتها و انطلقت على عجلة من أمرها..
وجدت بالسيارة علبة من "الشوكولا" فالتهمت قطعا منها بنهم..
كانت الشمس قد توارت عن الأنظار..
نظرت لوجهها بالمرآة فلاحظت - لأول مرة - أنها جميلة ، مليحة.. أسعدها هذا فزادت من السرعة و التهمت المزيد من "الشوكولا"..
( الشوكولا ؟!.. هل يذكرها هذا في شيء ؟ )
بدأ الظلام يسبغ الأشياء بالسواد فاختفت جوانب الطريق و اختفت الأشجار و لم يبق منها سوى جذوع غليظة نجحت أضواء السيارة في كشفها..
موسيقى مرحة بالراديو.. و المزيد من الشوكولا..
لاحت أمامها علامة جسر ، فخفّضت قليلا من السرعة و نظرت إلى الساعة الفسفورية ، المضاءة..
" إنها الثامنة إلا عشر دقائق "
داعبت شعرها بيدها و زفرت بملل ثم...
رجل ضخم بملابس ممزقة يظهر فجأة وسط الطريق.. حركات مذعورة على المقود.. ثم تخرج السيارة من الطريق و تطير في الهواء قبل أن تغوص في الوادي تماما !..
* * *
قاومتُ بما تبقى لي من طاقة لكني استسلمتُ أخيرا..
* * *
أفاقت فجأة و بدأت تسعل بحدة..
إنها مبتلة تماما !.. رأت الوادي المظلم أمامها فتذكرت الحادث و انتفضت بذعر !..
قامت بصعوبة و مشت مترنحة..
( هل شاهدت فلما يشبه ما تعيشه الآن بالضبط ؟ )
النباتات السوداء في كل مكان و صوت الضفادع و الحشرات..
تسلّقت المنحدر نحو الطريق السيّار ثم مشت بمحاذاة هذا الأخير و هي تجزم أن ما تمرّ به سبق أن عرفته بطريقة ما !..
( لعلّها ظاهرة "ديجا فو" !؟.. ) " شوهد من قبل "
مشت حتى خذلتها رجلاها فسقطت و بدأت تبكي و تنظر حولها بذعر و كأن هناك من يتعقبها !.. ثم نهضت من جديد و لم تكد ترمي خطوات ضعيفة حتى رأت أضواء سيارة تقترب !..
ركضت بكل ما تملك من قوة وسط الطريق و هي تشير بيديها و تصرخ.. ناسية أنها تركض وسط الطريق السيّار.. ليلا !..
* * *
دوّى صرير حاد بالمكان ، تلاه صمتٌ أكثر عمقا من سابقه !..
توقفت الميرسيدس الجديدة قسرا و بأعجوبة ، على مسافة سنتمترات معدودة من ساقيها.. الداميتين !..
صُدمت و احتبست صرخة بفمها !..
انفتح الباب الأمامي بعنف ليخرج منه شاب مذعور.. تقدم ببطء و هو يرمق رجليها ثم رفع بصره بنفس البطء الشديد إلى وجهها و حدّق به طويلا قبل أن يقول بارتباك:
- هل.. هل أنتِ.. بخير ؟
ثم لبث قليلا و بلع ريقه قبل أن يتساءل مرة أخرى:
- من أنتِ ؟
- ...
- أنا.. أنا اسمي سمير و أنتِ ؟


تمت بحمد الله

Ch.Marwen
Ch.Marwen
الادارة العليا
الادارة العليا

المتصفح : Google Chrome
الإقامة : Republic of Tunisia
الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 25405
نقاط : 103330942
تقييم : 7859
تاريخ الميلاد : 14/01/1990
تاريخ التسجيل : 11/02/2012
العمر : 34

http://www.arabwoorld.com
-----

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

 اللقاء الأبدي !  Empty رد: اللقاء الأبدي !

مُساهمة من طرف رفعت خالد الثلاثاء 24 ديسمبر 2013, 17:10

هذه المنشورات باسمي (رفعت خالد)..
رفعت خالد
رفعت خالد
عضو
عضو

عدد المساهمات : 1
نقاط : 2
تقييم : 1
تاريخ التسجيل : 24/12/2013

-----

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى

  • ©phpBB | Ahlamontada.com | منتدى مجاني للدعم و المساعدة | التبليغ عن محتوى مخالف | آخر المواضيع